الرئيسيةمقالاتفي رمضان نتغافر ولا نتعاتب
مقالات

في رمضان نتغافر ولا نتعاتب

بقلم: د. عمار مناع

إن المعاني المتسامية التي تُقْذَفُ في نفوس المتحابين في الله، لتجعل أرواحهم تترقى في معارج الملائكة وتعلو في سماء الطهارة وتنعم في صفاء ونقاء الأخوة. فهذه المعاني لا يمكن أن يكون بينها مكان للعتاب، والأخوة لا يحتوي قاموسها على جذر (عتب) ومشتقاته. وذلك لما تحويه “المعاتبة” من آثار مدمرة، فما هي إلّا دخن نار الغضب تشتعل في الأعماق وتترك جمرها يكوي الحشا، وهي نقع غبار معمعة النفوس المضطربة تثيرها رياح القلوب الموغلة، وهي زفير أنفاس تحركت بها صدور امتلأت غيظاً، وهي نتاج أفكار عشعشت في العقول اختزنت الأحداث في كهوفها المظلمة المخيفة. فالعتاب يلقي ظلاله على الأخوة يعكرها، ويحمل في طياته المرارة، وتبدو فيه الجراح، ويخرج كصرخة ألم أشْبِعتْ تقريعاً وتأنيباً، وكم من موقف حساب كانت فيه بذرة الفرقة، تلقيها في أرض أخيك، فتنمو على مرّ الأيام يتعاهدها ويرعاها الشيطان، يرويها بالشكوك وسوء الظن يحرسها بوسوساته، ويمدّها بِفتَنِهِ، ولا يزال يغذيها بتأويلاته الفاسدة، فإذا بها شجرة خبيثة تنبت بالحقد، ولا تسمن ولا تغني من جوع.

فإذا وقفت معاتباً تبدي الملامة وتنهال على رأس أخيك بسيل من المواقف والأحداث التي طُبعت في ذاكرتك، ولم يُنْسِها لك الشيطان، فتهوي بها على مسامعه، وكأنها مطرقة تدق بها رأسه، تحاصره وتستفزه، وتستنفر “الأنا” الذي في داخله، ومع هجوم السلبيات التي ترسلها في وجهه لا تترك له خياراً إلّا أن يقف موقف الدفاع، وقد تأخذه العزة بالإثم، فينتفض منافحاً عن نفسه، يرد عنها صولتك، ينصر ذاته ظالماً أو مظلوماً ولو على غير هدى واتباعاً للباطل، فلا تتركه إلّا وقد انغرس في عقله الباطن وارتكز في أعماقه أنك مصدر تهديد له، وغدوت سبب جرحه، وقد ارتبط حضورك بإظهار ضعفه، وهو بلا شك سيكون بداية التصدع في علاقة جمعتكما، وسيؤدي إلى تآكل معاني الأخوة وتلاشي مشاعرها شيئاً فشيئاً، فلا يراهن على استمرارها وصمودها في خضم أمواج الملامة وعواصف التأنيب والتقريع، ولتعلم أنه لا تَقِ محبةُ أخٍ من هجير عتابه.

وليس المطلوب أن تجعل المواقف تتراكم في أعماقك، وتختزن الأخطاء التي صدرت من أخيك في صدرك، وأن تتعامى عن آثار ما تكره من تصرفات من تحب، فإنه اليوم الذي لن تستطيع فيه كتمان ذلك آتٍ لا محالة، وحينها ستفيض نفسك قيحاً يؤذي، وتنفث نار صدرك تكوي، وتضطرب روحك فتزلزل بناء أخوة طالما غرست أركانه في شغاف قلبك.

بل ما نحتاج فعله أن نجلس ونتصارح، لنخرج ما علق فينا من أدران، من أجل أن تصفى قلوبنا، فنتعاهدها لتبقى نقية صافية، ونسارع الى مغفرة الزلات فلا نهملها، فيمسح الأخ بكلمات المحبة عناء أخيه، ويطهر بما يسكبه من فيض مشاعره ما قام بينهما من خبث، وتتعانق أرواحهما حتى تبدو كأنها مزجت في روح واحدة حلّت في جسديهما، فيرتفع بناء أخوتهما، ويزدادا قوة ومنعة، ويقفان صفاً واحداً كالبنيان المرصوص في مواجهة الشيطان وحزبه.

فردد أُخَيَّ.. تلك القاعدة وتعلم تلك المعادلة، واغرسها في أعماقك عقيدة، واحفظها في عقلك فكراً، وسر على دربها سلوكاً، عندما قال أحدهما لأخيه: ” اجلس بنا نتعاتب” فأجابه أخوه صاحب القلب الكبير ” بل اجلس بنا نتغافر ”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *